ظاهرة "آلمودات"، تلاميذ، متسولون.. أطفال متشردون؟!
انتشار أطفال الشوارع في نواكشوط ظاهرة سيئة باتت تؤرق الجهات المعنية وتلفت انتباه منظمات حقوق الإنسان بشكل ملحوظ وفق آخر إحصائيات أجرته منظمات حقوقية حول وضع الطفل في العالم العربي وخلصت فيه إلى إدانة هذه الظاهرة المنتشرة في موريتانيا رغم جهود لجنة حقوق الإنسان وجهودها الساعية إلى خلق فرص التكافل الاجتماعي بين كافة فئات المجتمع وشرائحه.
ورغم حداثة سن قانون حقوق الطفل في بلادنا فان الدولة تعطي اهتماما بالغا في مجال حماية الطفل وإيوائه من التشرد، وتجريم ظاهرة التسول التي يشملها قانون الشغل والتي تحوي عقوبات جنائية ضد مرتكبي تشغيل الأطفال والمتاجرة بالأشخاص في جميع أشكالها المعروفة.
وقد أشار تقرير منظمة حقوق الإنسان الموريتاني في تقريره لسنة 2009 إلى (وجود حالات استمرار للرق والمتاجرة بالأشخاص، تشير إلى أطفال صغار دون السن 15 يسمون (Talibes) ويعرفون في الأوساط الاجتماعية بـ"آلمودا" يأتون من داخل البلاد وكذلك من مالي ومن السنغال وقال التقرير أنهم يتعرضون لسوء المعاملة من قبل معلمي دين يجبرونهم على التسول).
وتعود ظاهرة أطفال الشوارع في موريتانيا إلى عدة أسباب من بينها التفكك الأسري والزواج المبكر الذي ينجم عنه طلاق يلفظ أطفالا بلا معيل خارجين على طاعة الأم وفوق قدرة حضانة أبنائها أو تربيتهم، كما أن لانتشار الفقر والأمية و البطالة دور أساسي ساعد على خلق ظواهر ظهرت في المجتمع الموريتاني كظاهرة الإنجاب خارج نطاق الزواج والتي راح ضحيتها عدد كبير من الأطفال (اللقطاء) الذين يكتظ بهم "مركز الحماية والدمج للأطفال" حيث يستقبل أكثر من 200 طفل أو يزيدون من كل سنة.
وفي هذا الإطار تابعت "اليونسف" و وزارة العدل، وحكومة الإمارات العربية المتحدة تنسيق جهودها، لإغاثة وتعويض الأطفال الموريتانيين الذين أرسلوا إلى الإمارات العربية كعاملين في سباق الجمال.
وحسب اليونسف فان الإمارات العربية عوضت 497 طفلا من راكبي الجمال مبلغا صرف مابين 260.000 و560.000 أوقية أي حوالي (6000 دولار) لكل طفل.
وتكلفت كذلك بصرف 260.000.000 أوقية أي ما يعادل (1.000.000 دولار) لبرنامج إعادة الدمج الاجتماعي والحد من الفقر لصالح الأطفال ومجموعاتهم.
وفي كتابتنا لهذا التقرير فقد تسلمت آخر دفعة من الأطفال الموريتانيين الذين كانوا يستخدمون لركوب الجمال في سباقات "الهجن" بالإمارات العربية المتحدة، التعويضات المالية المقدمة لصالحهم وفقا للاتفاقية الموقعة بين الإمارات وموريتانيا.
التعويض بلغ 10 آلاف دولار لكل طفل، تسلمه القائم بالإعمال في سفارة الإمارات بنواكشوط، عبد الله دهماش، وبحضور السلطات الموريتانية المعنية في وزارة الشؤون الاجتماعية والأسرة والطفل.
وحسب منظمات غير حكومية فان الممارسات ذات العلاقة بالعبودية استمرت في أماكن معزولة حيث ما تزال المقايضة هي السائدة.
إلا أن البعض يفسر هذه الحالات إلى حالات طبيعة في عملية التكافل الاجتماعي بين الأسر، كحاجة العني إلى عامل يتولى تدبير شؤون عمله ويأخذ غليه أجرا بالمقابل.
هذا إلى جانب فاقة الفقير وحاجته إلى تامين حياته المعيشية، من رب عمله.، فهل الغاية تبرر الوسيلة أم أن صاحب الحاجة أعمى كما يقولون.
خارج دور الإيواء
وبالرغم من وجود هذه الظواهر التي يجرمها القانون وينتقدها العرف الموريتاني وتحرمها الشريعة الإسلامية، فإن الدولة الموريتانية ما تزال عاجزة عن توفير آلية جديدة تحد من انتشار هذه الظاهرة وتأمين حاجيات هؤلاء المتسولين أو فتح مراكز إيواء لحضانتهم، من اجل خلق إطار لتمدرس الطفل وتوفير الظروف الملائمة له.
ولمواجهة هذه المشكلة المزعجة، رصدت الحكومة الموريتانية 300 مليون أوقية أي ما يعادل (833.000 أورو) لبرامج الإيواء وإعادة التأهيل في أحياء السبخة وعرفات ومناطق أخرى بنواكشوط. يوفر الغذاء والعلاج وأنشطة مدرة للدخل لأزيد من 2000 متسول. لكن الكثيرين يغادرون المأوي بسرعة ليعودوا إلى شوارع نواكشوط.
كما عمدت الدولة مؤخرا إلى اكتتاب العديد من المربيات وتكوينهم في مجال الحضانة والرعاية التي تدخل في مجال مراكز الإيواء المقسمة على دور الحماية والدمج الاجتماعي للأطفال حيث اعتمدت الدولة فتح عدد من المراكز الفرعية لإيواء الأطفال في كل من دارالنعيم والميناء والسبخة من أجل استقبال الأطفال، حيث يبذل مركز الحماية والدمج الاجتماعي للأطفال في العاصمة مجهودا كبيرا من أجل حماية الأطفال بمختلف فئاتهم، وذلك عبر فتح مراكز فرعية في بعض مقاطعات العاصمة، إلا أنه توجد هناك معوقات لا يزال المركز الحديث يعاني منها إلى حد الآن وهي معوقات تشكل للمركز عائقا كبيرا وهم ظاهرة انتشار "المودات"في نواكشوط أو الـ(Talibes) أي (طالبة) وهم شلة أو عصابة من الأطفال القاصرين يحملون سلال يجمعون فيها الصدقات والعطايا يحملونها في الغالب إلى معلميهم أو إلى رؤساء العصابات، بشكل هبات أو إتاوات هي حق المعلم على الطالب، وينحدرون من بعض الأوساط الاجتماعية التي تطلق هذا الاسم على طلبة المدارس الدينية المعروفين بـالمحاظر.
وتنشق الكلمة من كلمة الطلبة (بالعربية)، وقد لا يدخلون في إطار ذوي العاهات ولا من الفقراء المحتاجين بل من أسر اجتماعية مرموقة، يقفون منذ الصباح الباكر على ملتقيات الطرق والأماكن العامة، حيث باتوا يشكلون حالة استرقاق لدى البعض لكونهم مستغلين من طرف معلمين جشعين، همهم الوحيد هو إرسال هؤلاء الأطفال الذين تخلت عنهم أسرهم يجمعون لهم الدينار والدرهم ويتعرضون للشتم والضرب إذا هم لم يجلبوا شيئا، بل إن بعض المعلمين يفرض عليهم يوميا مبلغا معينا يحصلونه وإلا تعرضوا للضرب والتنكيل والنكاية، بل أدهى من ذلك وأمر أن بعض الأسر الفقيرة صار يركب هذه الموجة ويعتد بهذا التقليد من أجل التخلي عن أبنائهم وفلذات أكبادهم.
وخارج كل هذه الوسائل يبقى أغلب الأطفال الموريتانيين متشردين في الشوارع، و عرضة للكثير من المخاطر، خارج دور الإيواء أو المراكز المخصصة لحماية الطفل من التشرد، رغم أهليتة بعض هذه الملاجئ أو حصولها على قدر كافي من الحضانة والأمن الذين يحتاجهما الطفل اليوم.
مسميات وأرقام:
لا توجد إحصائيات لأطفال الشوارع في موريتانيا بشكل رسمي يحدد العدد النهائي لهم، إلا أن مركز الحماية والدمج الاجتماعي للأطفال في العاصمة نواكشوط (الذي يعني بالأطفال)، توجد لديه إحصائية تقول إن عدد أطفال الشوارع في موريتانيا منذ نشأت المركز يبلغ 587 طفلا موزعين إلي فئات متعددة يستهدفها اهتمام المركز و منها، (أطفال الشارع، والطفل ضحية التسول والاستغلال الاقتصادي، والطفل بدون سند عائلي، الطفل المعرض للإهمال والتشرد، الطفل ضحية العنف داخل العائلة) وكل هذه المسميات والضحايا أطفال فقدوا الأم والأب داخل مجتمع ظل إلي حد قريب متمسكا بأخلاقه وقيمه الدينية التي ترفض وجود هذا النوع من الأطفال خاصة، لأن الأسرة ملزمة بالتكفل بهم حتى يبلغوا.
استغلال الأطفال الغاية تبرر الوسيلة:
يدخل تأثير معلمي الـ (Talibes) في تلاميذهم من "المودات" في كونهم مرغمون على جمع هذه الإتاوات والهبات كوسيلة تبرر لهؤلاء المعلمين كلمة حق أريد بها باطل كحقهم كمدرسي دين أو محظريين. يحتاجون إلى يد المساندة والدعم في تموين لقمة العيش على هؤلاء الأطفال "الطلاب" كما يسميهم المعلم المحظري في (البولارية أو الولفية).
وقد سنت قوانين لصالح الأطفال المشردين مثل قانون يمنع استغلال وتشغيل الأطفال وقانون إجبارية التعليم، إلا أنه يوجد أزيد من 2000 قاصر في نواكشوط حسب إحصاء في نوفمبر 2009 أجرته لجنة حقوق الإنسان والعمل الإنساني من أجل العلاقات مع المجتمع المدني.
ظاهرة "Almoudatt" يشكل تحد دائم لوزارة الصحة والشؤون الاجتماعية التي تقف مكتوفة الأيدي أمام جيل من الأطفال المشردين في الشارع محرومين من التربية والتعليم، بل أصبحوا عرضة للجريمة والمرض والتضليل والإغواء، اذ يُرسل العديد من الأطفال من قبل مدارسهم الدينية إلى التسول.
وجهة نظر:
في ظل فقدان دور الأم الحنون و غياب تربية الأسرة في المجتمع الموريتاني الحديث حيث التشرد والضياع هما طابع الكثير من أطفال اليوم ورجال المستقبل الذين باتوا عرضة لمخاطر الانزلاق والإرهاب وانتشار الجريمة المنظمة وتنامي العصابات والسطو المسلح.
هذا العالم الذي يتسم بالرذيلة والأخلاق المنحلة الوافدة من العالم الآخر والغريبة على مجتمعنا الموريتاني المعروف بانتشار دور العلم ومناهج الأخلاق الحميدة التي عرف بها مجتمعنا الشنقيطي القديم.
الحقائق دخلت أوكار هؤلاء المتسولين عن طريق الطفل محمود الذي حاولنا جاهدين أن يحدثنا عن اسمه ومن قام بإرشاده إلى هذه المهنة المرتمية في أحضان القاذورات المنتنة التي أصبحت ملجأه المستمر وملاذه الأخير.
براءة نظرات محمود الصغير وسخطه على العالم من حوله، بل على المجتمع، ولدت لديه انفصاما في شخصيته، فهو لا يعرف من الأسر سوى الشارع الذي ينزل إليه، أو شلته التي تأويه فقط. مما جعله يعيش رهين محبسه في عالم إقطاعي مليء بكابوس الأم والضياع.
محمود ليس كغيره من "ألمودات" إنه تربى على عرق جبينه كما يقول هو عن نفسه، يستيقظ باكرا ويدخل "إيواءه" في مكب القمامات التي يبحث فيها عن سلعة نادرة أو طريقة مدرة للدخل، حيث يقوم فيها بنبش رفات مزابل أحياء الأغنياء وفق حديثه باحثا فيها عن خردة من الحديد يبيعها أو قميصا باليا يرتديه بدل بيجامته الرثة، فمحمود وجد إذن وظيفة يكسب منها قوته اليومي وينظر إلى الدنيا على أنها قمامة ينبش فيها عن كنز ثمين بالنسبة له، مضيفا انه لم يعد يتوسل في إلحاح الناس أشياء في الغالب يمنعونها منه.
رغبات محمود وشهواته لم تعد تنطبق عليه كطفل مولع باللعب، بل تتعدى ذلك إلى أمل كبير ظل مفقودا في حياته الاجتماعية التي يعيشها في بهو ضياعه الإقطاعي، بين ثالوث ظل مفقودا بالنسبة له، كالأمن والحنان، والرعاية، هذا الثالوث الذي يفور لنا جميعا الأسس التي يبني عليها الطفل حياته وتؤمن له مستقبله كفرد داخل المجتمع.
في المجتمع الإقطاعي القديم كان الطفل يتوفر على عطف وحنان ورعاية لا بأس به يتمثل في حنان الأسرة الأموسية دورها الأبوسي. أما في مجتمعنا الإسلامي الراقي أصبح دور الرعاية والحنان منوطين بالغريزة التي تغلب على الطبع وأصبح الطفل وليد حالات انفصام غريزي بسبب غياب تكوين الأسرة التي غالبا ما ترمي أبنائها إما للشارع أو إلى دور الملاجئ والضياع والتشرد.
وقديما يقول المثل الموريتاني "من وجد أمه لا يرضع جدته"
تقريــــر: محمد الأمين ولد يحيى
تم نشر التقرير امس الاحد 15/مايو 2011 في العدد 54 من جريدة "الحقائق" الموريتانية