جنود المواطن وأعداء الدولة
الصحافة هي الميثاق الشرفي الذي تتقدم به شعوب العالم سواء على المستوى المعرفي أو على المستوى الأخلاقي، ذلك أنها المتنفس أو الوسيلة الوحيدة لإنارة الشعوب حيث كانت بنت عصرها مع ولادة الإنعتاق الذي عرفه العالم بوجود الديمقراطية التعددية الذي استنشقت منها هذه الشعوب نسائم الحرية من زفير "الصحافة" ومع تطور هذه الديمقراطية تطورت ايضا الصحافة بوسائل اختلافها مع ولوج عصر العولمة والتدفق الهائل للمعلومات، وخاصة الصحافة المستقلة.
وجريا على مقولة احمد شوقي (اعطوني صحافة وخذوا شعبا) فقد دخلت الصحافة في ميثاق اللوائح والدساتير المنظمة لاي دولة داخل ترتيبها السلطوي على انها "السلطة الرابعة" على قائمة هذه اللوائح القانونية.
الا ان الصحافة المستقلة في موريتانيا اصبحت تفتقد لكثير من ديبلوماسية هذه الحصانة التي يمنحها لها المشرع على تقويمها لها على انها المتنفس الوحيد الذي يعبر عن راي المواطن ومشاكله مما يجعلها مهنة المتاعب ويعرضها احيانا للتقاضي.
فهل تعتبر الصحافة وليدة لهذه السلط فقط، ام انها مرآة عاكسة لاي مجتمع منتفح على الرأي والآخر ؟ ام مجرد ولد مشاكس داخل "الجمهورية الديمقراطية" قد تطالها يد الجلاد في أي وقت يشاء عند ما تحيد برايها عن منابر المؤسسة الرسمية.
التضييق على صحافة الحبر:
للأسف اصبح الصحافة المستقلة في بلادنا مجرد وسيلة انتقائية ومنبرا خاصا للتعتيم ـ على المجريات ـ ومجرد واجهة للاعلان والتصفح الذاتي فقط او المذهبي المنحاز لفئة معينة، حتى فقدت قدسيتها وغدت وسيلة للكبت بل ومجندا مزدوجا "انكشاريا" من اجل خلق فرضية "الراي الاوحد"، فظلت بذلك بوقا للمؤسسة الرسمية ـ مثل ما يريدها هو أن تكون كذلك ـ وكلما يغرد خارج هذه المنظمومة يعتبر وقفا على القانون او خارجا عن السر قد يتعرض للاقصاء والتهميش او الاتهام بالتمرد او الملاحقة القضائية من اجل خلق مشاكل دائمة له مع السلطة، وبالتالي زجه في السجن على اثر مادة بالنشر، حتى ظلت "صحف الحبر" أو الصحافة الورقية فاقدة لهذه الاستقلالية لأنه تعبر فقط عن زاوية السلطان. وقد جاءت هذه المضايقات بتجريم وملاحقة بعض الصحفيين في القطاع لأنهم عبروا عن رأيهم المخالف لمدير هيئة ما داخل مركزه الإداري بكونه احد المؤسسات الإدارية التي تعتبر وقفا للمساءلة من طرف الشعب من اجل الحفاظ على تكريس العدالة الاجتماعية داخل فئاته، مما يتعرض له من نهب للمال العام.
حرية الصحافة:
(أو الصحافة الحرة) هي الضمانة التي تقدمها الحكومة لحرية التعبير و غالباَ ما تكون تلك الحرية مكفولة من قبل دستور البلاد للمواطنين و الجمعيات و تمتد لتشمل المنظمات بث الأخبار و تقاريرها المطبوعة. و تمتد تلك الحرية لتشمل جمع الأخبار والعمليات المتعلقة بالحصول على المعلومات الخبرية بقصد النشر.وفيما يتعلق بالمعلومات عن الحكومة فمن صلاحية الحكومة تحديد ما هي المعلومات المتاحة للعامة وما هي المعلومات المحمية من النشر للعامة بالاستناد إلى تصنيف المعلومات إلى معلومات حساسة و سرية للغاية و سرية أو محمية من النشر بسبب تأثير المعلومات على "الأمن القومي". تخضع العديد من الحكومات لقوانين إزالة صفة الحرية أو قانون حرية المعلومات الذي يستخدم في تحديد المصالح ا لقومية.
مبادئ أساسية ومعايير
حرية الصحافة بالنسبة للعديد من البلدان تعني ضمناً بأن من حق جميع الأفراد التعبير عن أنفسهم كتابةً أو بأي شكل آخر من أشكال التعبير عن الرأي الشخصي او الإبداع، وينص (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) على ان : "لكل فرد الحق في حرية الرأي و التعبير، ويتضمن هذا الحق حرية تبني الآراء من دون أي تدخل و البحث عن و تسلم معلومات أو أفكار مهمة عن طريق أي وسيلة إعلامية بغض النظر عن أية حدود".
وعادة ما تكون هذه الفلسفة مقترنة بتشريع يضمن درجات متنوعة من حرية البحث العلمي و النشر و الطباعة، أما عمق تجسيد هذه القوانين في النظام القضائي من بلد لآخر فيمكن أن تصل إلى حد تضمينها في الدستور.
غالباَ ما تغطى نفس القوانين مفهومي حرية الكلام و حرية الصحافة مايعني بالتالي معالجتها للأفراد ولوسائل الإعلام على نحو متساوي.
والى جانب هذه المعايير القانونية تستخدم بعض المنظمات غير الحكومية معايير أكثر للحكم على مدى حرية الصحافة في مناطق العالم
فمنظمة "صحفيون بلا حدود" تأخذ بعين الاعتبار عدد الصحفيين القتلى او المبعدين أو المهددين ووجود احتكار الدولة للتلفزيون و الراديو إلى جانب وجود الرقابة و الرقابة الذاتية في وسائل الإعلام و الاستقلال العام لوسائل الإعلام و كذلك الصعوبات التي قد يواجهها المراسل الأجنبي. أما منظمة Freedom House فتدرس البيئة السياسية و الاقتصادية الأكثر عمومية لكل بلد لغرض تحديد وجود علاقات إتكالية تحد عند التطبيق من مستوى حرية الصحافة الموجودة نظرياً من عدمه. لذا فإن مفهوم استقلال الصحافة يرتبط إرتباطاً وثيقاً بمفهوم حرية الصحافة.”’
الصحافة كسلطة رابعة
يستخدم مفهوم الصحافة كسلطة رابعة لمقارنة الصحافة (وسائل الإعلام عموماً) بفروع "مونتيسيكيو" الثلاثة للحكومة وهي: التشريعية و التنفيذية والقضائية. وقد قال (إدموند بروك) بهذا الصدد: "ثلاث سلطات تجتمع هنا تحت سقف في البرلمان، ولكن هناك في قاعة المراسلين تجلس السلطة الرابعة وهي أهم منكم جميعاً".
لم تكن حرية التعبير حقاَ تمنحه الدولة بل حقاً يتمتع به الفرد وفق القانون الطبيعي
لذا كانت حرية الصحافة جزءاً لا يتجزء من الحقوق الفردية للإنسان التي تدعمها الآيديولوجيا الليبرالية
إن الفكرة الليبرالية للحرية تتمثل في الحرية السلبية أو بمعنى آخر على أنها الخلاص من الإضطهاد، حرية الفرد في التطور من دون معوقات، وتعتبر هذه الفكرة مضادة لبعض الفلسفات مثل الفلسفة الاشتراكية للصحافة
المدونات أو الصحفي الملثم
كلما ازداد القمع من طرف الدولة على الصحافة "المكتوبة" المستقلة ظهرت نتائج هذه الضغط سلبية، وولد ذلك الكبت ولادة جيل جديد خارج منظومة او دائرة الانضباط الأخلاقي في حدود قانون ضابط لوسائل الإعلام والصحافة المستقلة والمكتوبة بشكل خاص، مما اضطر البعض إلى تقمص أسلوب التخفي لما قد يتعرض له من الحيف والظلم من طرف بعض أركان السلطة. وقد ظهر هذا "الجيل الجديد" في موريتانيا من اول مرة في عهد الرئيس الأسبق معاوية ولد سيد احمد ولد الطايع، فيما بات يعرض حينها لكتابات "اكس ولد اكرك" والتي يرى البعض انها ساعدت بشكل كبير في تقويض النظام آن ذاك حيث تشكلت شبكة ملثمة من الصحفيين من داخل البلاد همها الوحيد الكشف عن خرقات الدولة وتعثرها وفساد الادارة، فكشفت النقاب عن فضائح بعض المسئولين الإداريين. ويكتسح هذا الجيل جميع المواقع الالكترونية داخل الشبكة العنكبوتية التي اصبح ملاذا آمنا (للصحافة الملثمة) تلك الصحافة السرية التي يصعب رصدها من بين آلاف وسائل الاعلام المضغوطة، وقد تجسد ذلك في الانتشار الهائل والمفاجئ لكثير من رواد جيلنا الجديد بسبب تفتحه على المعلوماتية، وولوعه بالانترنت، هذا الجيل "المشاكس" باختلاف آرائه ونقده اللاذع في بعض الاحيان، حيث أصبح الكثير من الاعلاميين يفضل استخدام هذه الوسائل ـ عن غيرها ـ التي غدت مطية لـ"الصحفي الملثم" او السري سواء تعلق الأمر بأصحاب المدونات او الفيسبوك بمختلف وسائل سرد وتدفق المعلومات في "الحوار المفتوح" والمباشر مع ملايين القراء.
التدوين "الفضاء والأرحب":
المدونات الالكترونية نمط جديد من اشكال الصحافة المستقلة تعتمد على سرد المعلومات بصفة متاحة للجميع وعامة خارج نطاق المعلومة المحمية من قبل الرقيب.
وتعرف المدونات او The Blogs بانها صفحات يتم انشائها مجانا على الانترنت برابط يوفره الموقع وتحتوي هذه المدونات على سجل من المعلومات في التدوين Posts متسلسلة زمنية تتمثل في نصوص، وصور، وبرامج، ومواد صوتية (مضغوطة او مقروءة) متاحة لجمهور بعينه. وهي ادوات مهمة في تشكيل مجتمع معلومات قائم على الديمقراطية، ومع ذلك فان عالم التدوين يشهدك قدرا كبير من الخلط بين المعرفة الشائعات.
ولد هذا الجيل داخل منظومة الفضاء الالكتروني الارحب وتربى في احضان هوس الانترنت وشغف التدوين وخلق وسيلة بديلة للسلطة الرابعة تنتهجها نخبة من "المدونين" امنتهنوا تصفح الانترنت لتحرير ونشر افكارهم وكتاباتهم عبر نسيج اجتماعي متكاتف يتحدى ضابط الرقيب على الصحافة المستقلة، وهاجس المصادرة لدى الصحف الورقية.
فهذا الجيل الجديد ينتمي إلى عالم الصحافة المستقلة إذ لايمكن أن نطلق عليه مجازا في تسلسله "السلطة الخامسة" ما دام خارجة طاعة السلط منظومتها، وعصيا على سيف الامام، لا متقيدا لأي ثقافة او منظمة ترضخه لان يكون ذليل او جاسوسا للأنظمة.
قوة المدونيين وآرائهم:
مع بروز هذا الجيل ظهرت قوة "التدوين" داخل الصحافة المستقلة والمدونات الالكترونية تزداد زخما وصخبا مع قوة انتشار (صحافة التدوين) واكتساحها للساحة الإعلامية خارج سرب من تربوا في احضان الدولة، ممن عرفوا على أنهم القامع الأول للحريات ومصادرة الآراء التي لا تناسبهم.
لكن هذه الشبكة استحدثت من تلقاء نفسها أسالبها الخاصة في التعبير الخطابي، مشكلة بذلك "منظمة مهنية قوية شعبية"، فهي الكلمة الشجاعة والمناضلة إلى جانب الرصاصة القاتلة المسلطة أحيانا على سواها .
ورغم تعدد المزايا التي تطبع هذا الجيل استطاع تكوين مؤسسة علاقات واسعة في مختلفة مجالاته الفكرية وروابطه الثقافية، إذ ينهل من معين التغييرات التكنولوجية سبيلا إلى إلانعتاق، وقوة التشبيك بين أواصره الاجتماعية وروابطه الفئوية، وتبادل المعلومات في بناء فضاء الكتروني أرحب يعكس نفس الروابط الاجتماعية التي ينتمي إليها داخل قطره في عالم مصغر يناقش نفس الأزمات والمشاكل التي يتصدى لها وبدون قيود.
أنت مدون إذن أنت حر.
ومن هنا أتاحت لنا المدونات متنفسا من التعبير الحر وبمنئ عن الرقيب التسلطي الذي تعاني منه الصحافة بشكل عام، حيث أتاحت بيئة الانترنت الخصبة لهذا الجيل فرصا جيدة، ومساحة واسعة للحوار والرأي الحر لم تكن موجودة من قبل، ومكنته الوسائل باختلاف وسائطها المتطورة من خلق فرضية "الجيل الثالث" في أحضان (السلطة الخامسة) المتمثلة في عالم المدونات الالكترونية التي اقتحمت تابوهات السلط على نحو أصبح معه المجتمع مكشوفا أمام أقلام هذا الجيل الذي يخدم من تلقاء نفسه القيم الأخلاقية لهذه المهنة، متحليا بالضوابط التي يراها هو متاحة مع مجتمعه أو أخلاقه الخاصة أو دينه، مشكلا بذلك تحالفا قويا مع القراء الذين يتعاطوا معه على الشبكة العنكبوتية وكشف مشاكلهم الحقيقية بعيدا عن مقص الرقيب.
ومن مواطن قوة المدونات وضعفها في نفس الوقت عدم وجود رقابة عليها أو وسيط بين المدونين (الصحافة) والجمهور وعدم كذلك خضوع هذه المدونات للتحكم، مما يطرحه البعض تحفظات سياسية وأخلاقية حول مضمونها. ومع ان العالم لم يكن يعرف المدونات قبل عام 1996 إلا أن الإقبال عليها أصبح يستقطب اكثر من 60 مليون شخص، حيث بلغ عدد المدونات في كل أنحاء العالم نحو 70 مليون مدونة حسب بيانات ابريل 2007.
وتعتمد المدونات على تداول المعلومات العامة كالدينية والسياسية والإخبارية والاجتماعية ويعطي هذا مؤشرا بالغا على انعكاس الثقافات الفرعية حول الأشخاص المدونين والموجودين داخل المجتمع على ساحة الانترنت، بحيث يصعب القول بوجود ثقافة واحدة شاملة لآراء المدون وجامعة له في هذا المجال، لأن تداول المعلومات لا يتم من فراغ وإنما يعتمد على البيئة الثقافية والاجتماعية والسياسية التي يوجد فيها ناقل المعلومة، والتي يمكن ان تحدد مجالات حركته واختياره لنوعية المتلقي الذي يشكل قوة تحالفه مع القارئ وإثرائه بالمعلومة كوسيلة في الحوار السياسي الخام، مما يجعلها بهذا التحالف جنودا للمواطن ويصنفها عدوة للأنظمة التي تحاول تكوين شفاهها عن طريق حجم المعلومة وحظر بعض المواقع الالكترونية ومصادرة الصحف الورقية التي قد تعكر صفو القائمين على حقل الإعلام العمومي.
—————-
*محمد الأمين ولد يحيى
كاتب صحفي ومدون موريتاني
الجوال: 002223636.67.33 / 0022246781212
البريد الالكتروني: yahyawi@maktoob.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق